samedi 5 janvier 2008

محاكم التفتيش "1



إذا كانت الإيديولوجيا كما عرَّفها "كارل ماركس" مجموعةَ أوهامٍ تُعـتِّم "العقل" وتُـحجّبه عن إدراك الواقع والحقيقة، فإن العقل يتحوّل مع الإيديولوجيا إلى مفهوم مسبّق، يجب تحديده وتأطيره وِفقاً لـما تَرتئي الإيديولوجيا وتُريد، إذ يتحوّل العقل وِفقاً لذلك إلى مجرد أداة تستجيب دائماً لرغبات الإيديولوجيا الفائزة التي لا تفتر ولا تني عن الوُلوج في الصّراع مع الخـصم، ويتوجب على العقل عند ذلك أن يخوض معها الصراع لتحقيق النّصر والظّـفر.

لكن ما السبيل إلى اكتشاف هذا "العقل" والتمثّل به كي نحقّق ما نطمح إليه ؟ هنا تتكاثر الأجوبة بحكم تكاثر الإيديولوجيات، فالإيديولوجيا التّقدمية العلمية ترى أن النموذج "العلماني" وحده يؤدّي إلى تكوين عقل علمي بنّاء، كما يعبّـر حامد خليل في كتابه "أزمة العقل العربي". وإذا توقّفنا لحظة للتساؤل عن ما خلفه النّموذج العلماني في الأقطـار الـمحافظة على صعيد العقل، هنا تجيب الإيديولوجيا، في لغة فيها الجزم مع الحسم:"إنّ العقل العلماني ليس قادراً على التّغيير بحكم بُـنيته الداخلية، وإنما بسبب الحصار المضروب عليه من قبل القوى الظّلاميّة والرّجعية التي ألّبت الجماهير عليه" وبذلك يصبح العقل العلماني منفرداً ووحيداً مع نفسه، إذ تآلب الجميع ضدّه وتخلّـت الجماهير التي يتكلم باسمها عنه.

هنا تثور الإيديولوجيا العلمانية مرّة أخرى لتؤكد أن العقل المُتحرّر يمثّل المَخرج الوحيد للأزمة التي يعيشها العقل العربي، وكلّ
خطأ أو انحراف ليس ناتجاً حتماً عن تركيبته وبنيته، إذ هو مبرأ عن الأخطاء، وإنما يمكن إعادته إلى عوامل خارجية وقوى التّـحكم الظّلاميّـة التي تتربص بهذا العقل، و مدى هيمنة الإيديولوجيا الـمُحافظة على العقل وتلبُّسها، به بدلاً من أن يكون العقل حاكماً ل"الإيديولوجيا" وموجهاً لها.

لقد اكتشف المسلمون "العقل" متأخّرين، لكنهم برغم ذلك، لم يُفَـوِّتـوا عليهم فرصة توظيفه في التّجاذب الإيديولوجي. لقد تحوّل "العقل" في الإيديولوجيا الإسلامية المعاصرة إلى رِهان، إن كسبناه حقّقنا النّهضة، و إنّ خسرناه كان علينا مواجهة مصيرنا المعتّم الذي ينتظرنا وفقاً لذلك. وطبيعيٌ بعد ذلك أن ترفض هذه الإيديولوجيا الـمُحافِظة أيّـة قراءة أخرى للعقل لا تنسجم مع رؤيتها ولا تتطابق مع مُسلّماتها و ثوابتها، وهذا ما لمسناه مع موجة النّقد الشّديد الذي وجهته هذه الإيديولوجيا لأيّ قراءة جديدة خلاّقة للعقل و نتائجه و تراكُماته.

إنّ الإيديولوجيا الإسلامية قد راهنت على العقل باعتباره محرّك التّغيير وأداته، فهي تُعيد ما أصاب الأمة من تشرذم، وتشتّت، وضياع للهويّـة، وافتقاد الدّور الرّيادي على الصّعيد العالمي إلى الإبتعاد عـن الإسلام النّقي "المعقول" و التّهافت وراء إيديولوجيّات مُنحلّة، مُستوردة مصبَّرةٍ عقيمة. ونحن بدورنا نتساءل: أكلُّ هذا على "الإبتعاد عن الإسلام" أن يتحمله وأن يحمل مسؤوليته ؟ وهكذا يغيب أي سياق سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي لتفسير الأزمات المعقدة والمتشابكة.

وما دامت الأزمة قد اختصرت إلى هذه الرؤية فحلولها تختصر أيضاً، وبالطريقة نفسها، بالاعتماد على الرُّجوع "الميتافيزيقي" إلـى الأصل و إعادة تشكيل "العقل المسلم" حسب تعبيرها، وإعادة التّشكيل هذه تقتضي منّا تنقية هذا العقل من كل الرواسب والشوائب التي عَـلِـقت به، ثم نعيد تقويضه وِفق ما تريد الإيديولوجيا الإسلامية الـمُحافظة، وعليه، فالعقل هنا يجب أن يكون متوافقاً مع المنهج الإسلامي، فبُعده عنه سبب كل هذا التّخلف والتّردي والتّراجع.

ولا تكتفي هذه الإيديولوجيا بذلك، بل تحاول أن ترسم أُسُساً وتصوراً وملامحاً للعقل الفردي و الـجماعي، وذلك بعد عملية إعادة التّشكيل المطلوبة، عليه "أن يميز بين الحلال و الحرام، وأن يحول من حياة التّرف والدّعة و الغفلة إلى حياة الـجَلْدِ و الـمُجاهدة، وعليه أن يكتسب خاصية الولاء و البراء، وأن يكون دقيقاً في تعامله". وهكذا تُسقط هذه الإيديولوجيا صفاتها الخُـلُقية على العقل المطلوب دون مراعاة لهذا الإنتقال من الواقع إلى العقل إلى المنهج، مما يعكس غياباً للوعي، واختلاطاً في الرؤية والنظر معاً، إذ كيف ننتقل من المستوى الاجتماعي والتجريبي إلى المستوى المعرفي، من دون أن ندرك أن القفز ليس بهذه السّهولة بل إنه غير ممكن عملياً قبل عملية إعادة تقعيد نظري للمعطيات المعرفية الموجودة، ثم العمل على ربطها مع الواقع القائم، غير أن الإيديولوجيا الإسلامية الـمُحافظة تبدو قادرة على تجاوز كلّ ذلك برغم ادعائها أنها تتبنى المنهج "المعقول"، فما وجدناه لدى هذه من حيث الرّهان على الـمستقبل كعصا سحرية قادرة على إخراجنا مما نحن فيه، ونقلنا إلى ما نريد أن نكون عليه دون مراعاة الـظّروف التّاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعيشها ويتشكّل وِفقها، ووفق تأثيراتـها، يُؤكّد هذه النّظرة.

إنّ العقل وفق ما تطلبه الإيديولوجيا الإسلامية الـمُحافظة مشروطٌ بشروطها، ومتحققٌ فقط بأصولها، عليه ألّا يخرج عما تحدده وتُـؤطره، ومطلوبٌ منه أن يتقيّد ليس بفضائها العام فحسب، بل بتفاصيلها أيضاً، وإذا كانت الإيديولوجيا الإسلامية بكلّ تلويناتها قد راهنت على "الرّجعيّة" بوصفها مفتاح النّهوض، فإن رهانها هذا لم يكن على العقل بإطلاق بقدر ما كان على العقل المؤطَّر بالإيديولوجيا، وبالتالي، فخطاب الإيديولوجيا الإسلامية للنهضة من خلال "الإسلام هو الحل" هو خطابٌ مُراوغ، لأنه لا يبتغي تحقيق النّهضة بقدر ما يشترط تحقّقها بتحقيق ما يبتغيه منها، لذلك نستطيع القول إن الخطاب الإيديولوجي الإسلامي هو خطاب مضادٌّ للحقيقة، لأنه لا يروم المعرفة بقدر ما يبتغي السياسة، والسياسة هنا ليست بما هي علمٌ له أصوله وقواعده، وإنما بما هي كسبٌ للأنصار والجماهير، وتبخيسٌ للخصم والآخر، وهذا بدوره يؤكّد لنا أنّ العقل المسلم هو عقلٌ مُصَادَرٌ، ومشروط، ومحكوم بمسبّقات منهجيّة محدّدة سلفاً، لذلك حَقَّ أن نقول "لقد تحول مفهوم العقل حسب حاجات الصّراع الإيديولوجي، فأصبح شعاراً بقصد الإنتماء إلى معسكر ضد آخر، ونزعِ شرعية الكلام عن الخصم".

و على الرّغم من أنّ الحديث على العقل الـمُجرَّد، و يترنّمون به، ويتوسّلون إليه، إلاّ أنهم إذ يتحدثون عن العقل الـمُؤَدْلَـج، و يطالبوا الجميع بالتّطابق والتّماهي معه، فالصّراع على العقل لدى المسلمين كان بمثابة وجهٍ جديد من المعارك الكثيرة التي خاضوها حول التّراث والتّنوير والهوية، فكل مفهوم كان بمثابة ذخيرة إيديولوجية لـجَبْهِ الآخر ولجمه، والنتيجة كانت خسارة المسلمين لجميع معاركهم الفكريّة و الحضاريّة، لأنهم في الأصل لم يخوضوها من أجله، وإنما من أجل قداسة الإيديولوجيا المنزّهة المقدّسة، بذلك تكون "لعنة" النهضة التي رافقت المسلمين خلال تاريخهم المتطاول، ولم تحلّ عليهم، بعيدةً أن تتحقق لديهم دون أن يتمّ أفول شمس الإيديولوجيا المحافظة، وبزوغ نور العقل.

ولعل ﻫﺫا الشّعور بالذنب و الـمسؤوليّة الناتج عن الرّغبة اللاّشعورية في الـمَلامة و العقاب، هو المحرك الأساسي لثقافة التّكفير المتسمرّة في جنون النّقاء والصّفاء التي تُـجفّف العقل المسلم الأخلاقي وتُـجمّد حساسيته وتحرره من واجب احترام الحياة البشرية. وهو ما نعيشه ﻫﺫه السنوات العُجاف، عندما زعم نفر من الناس لم يخترهم أحد أنهم أصبحوا أولى الأمر "يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر" و نصبوا أنفسهم سُلطةً عُليا لا تتورّع عن التّدخل في رغبات النّاس ومُيولهم. وفي محاولةٍ لتطبيق نظامهم الأخلاقي الصّارم، روّجوا الفتاوى الهاﺫية لمصادرة عقول النّاس و أجسادهم. ولأنهم مركز الكون، وآراؤهم حقائق مطلقة لا غبار عليها، أنكروا حقّ الآخر في الاختلاف، لأن مجرّد تواجد الآخر المُختَلِف هو تكذيب لادعائهم الشُّمولي. وهو ما جعلهم يعاملون الآخر لا كمُغاير نتحاور معه بالحُسنى، بل كعدو لا تنفع معه إلاّ التصفية المعنويّة و حتى الجسدية.

يقول عبد السّلام ياسين، مُرشد جماعة "العدل و الإحسان" المغربية في كتابه "حوار الماضي و المستقبل":
"عقولٌ ما سمعت سمعاً كاملا مُتكاملاً في الدُنيا، وهي في الآخرة في مُقام الحسرة و النّدامة تقول ما يُخبرنا به الله تعالى مَلِكُ الدّنيا و الآخرة {و قالوا لو كُنّا نسمع أو نعقل ما كُنّا في أصحاب السّعير. فاعترفوا بذنبهم. فسُحقاً لأصحاب السّعير}. ما أعظمَه ذنباً ذنبُ العقلِ الذُّبابةِ يأكل من رِزق الله، و يكفر نعم الله و يكفر بالله!." (ص 140) "فَلِزَعْزَعَةِ الإقتناعات التي درّبوا عليها عَقْلَ الـمُغَرَّبِين منا، و لتنحية الغُثائية الـمَرضية الموروثة، ليس من مستمسك إلاّ تجديد الإيمان بالله و باليوم الآخر. فالخوف من الموت و الحرص على حياةٍ أيٍّ حياة هو رأسُ الداء. و إرادةُ النّجاة عند الله رأس الدّواء."
(ص 141).هللّـلوا يرحمُكم الله..

إنّ هذه القوانين التفتيشية (محاكم التفتيش)، حتى في أفئدة الناّس، التي تُزاحم المأساة فيها الملهاة، ليست شيئا قليل الأهمية. فهي تعكس بنية معرفية و نفسية تتميز بها الحركات الشّمولية المعادية للثقافة والحياة. و يُستحسن أن يقف عندها العقل مطوّلا، لأنها تنطوي بالقوة انطواء البذرة على النّبتة، على نمط تسيير المجتمع التُّوتاليتاري المنشود الذي تطمح إلى تأسيسه الحركات الإسلامية المهووسة بآليات التحريم و التجريم والتكفير. لذلك نرى البعض، في عصر تُعبئ فيه الأمم جهودها في معركة الإنتاج الحضاري، مازال يتجادل في الصُّحف و عبر الفضائيات حول البديهيّات.

إنّ إثارة مثل هذه المسائل الشَّكلية واختراع مثل هذه القضايا المصطنعة التي تشغل الناس عن الرّهانات المصيرية يشوّه الإسلام حتى عند معتنقيه، خاصة عندما يختزله البعض في لائحة غبية من الأوامر و النواهي شبه العسكرية.




2 commentaires:

rai a dit…

سلمت يداك عزيزي
الايدلوجيا الاسلامية تحكم العقل بشرطها وقوانينها فلا تجعل له مجال للابداع

ومنكم نستفيد
عندي سؤال ما ذتعني هذه الجملة
المجتمع التُّوتاليتاري ؟؟

وشكرا

Hannibal a dit…

http://en.wikipedia.org/wiki/Totalitarianism