dimanche 6 janvier 2008

محاكم التفتيش "2




التعصب الدّيني ليس وَقْفاً على الإسلام، ففي عام 399 قبل الميلاد عندما كانت أثينا باليونان مركزاً للآلهة اليونانيين الذين سكنوا الأكروبوليس"، حكمت محكمةٌ في "آثينا" على سقراط، أعظم الفلاسفة على الإطلاق، بأن يشرب السّم ويموت لأنه لم يؤمن بآلهتهم الذين كانوا يسكرون ويتشاجرون فيما بينهم، تماماً كما كان يفعل سكّان آثينا، ومات سقراط مسموماً
وفي القرن السادس عشر بعد الميلاد عمّت أوربا المسيحية موجةٌ من التعصب الكَنيسي لم يسبق لها مثيل. وتبارت المدن في إنشاء محاكم التفتيش التي انطلقت من إسبانيا. وفي العام 1553 تمت إدانة طبيب إسباني كان يعمل في سويسرا بالهرطقة. أسم هذا الطبيب هو "ميكائيل سرفيتيوس". حكموا عليه بأن يُحرق حيًّـا لأنه رفض أن يؤمن بتعميد الأطفال وبالثالوث "الله والإبن والروح القدس"، ونُفّذ الحكم يوم 27 أكتوبر 1553.
وفرنسا التي نقول عنها داعرة، كانت في قبضة "محاكم التفتيش" كذلك. ولما شعر رجال الكنيسة في فرنسا أنّ سويسرا قد فازت بجائزة حرق "سرفيتيوس"، صنعوا تمثالاً لسرفيتيوس وحرقوه حتى لا يفوتهم أجر حرق الملحدين. وقام زعيمهم "ميلانكتون" وخطب فيهم وحمد الله على معاقبة هذا الرجل الملحد وقال إنّ حرقه يدل على ورع أهل سويسرا. شخص واحد فقط تجرأ على الدفاع عن سرفيتيوس وهو "جوريس البازلي" ولكنه نشر دفاعه تحت أسمٍ مستعار. ولما توفى جوريس واكتشفوا أنّه هو الذي دافع عن سرفيتيوس، نبشوا قبره و أخرجوا جُثّته وحرقوها عام 1566.

وفي الشام كانت هناك فيلسوفة وثنية إسمها "هيبا شيا الإسكندارية" كانت تُعلّم الناس الأفلاطونية المُحْدَثَة ورفضت تهديدات الأسقف "كيرلس" لها لتعتنق المسيحية. فسلّط الأسقف عليها زبانيته من الرهبان والجنود في جيش الكنيسة، فترصّدوا بالفيلسوفة وانتزعوها من عربتها وسحبوها إلى كنيسة قيصرون وراحوا يلهون بتجريدها من ملابسها ثم جروها إلى الشارع ورجموها بالحجارة فلما أصبحت جثة هامدة مثّلوا بها أشنع تمثيل إذ قطعوها إرباً وألقوا بعض أشلائها طعماً للنيران، ودفنوا ما بقى من أشلاء في مكان خَرِبٍ.

و فقهاء المسلمين لم يكونوا أقل ورعاً من زملائهم السويسريين، فقتلوا المفكرين بحجة الزندقة.

فمنذ أن أغلقوا باب الإجتهاد قبل ستمائة عامٍ في القرن الرابع عشر، لم يتجرأ أحد أن يَقرأ الإسلام قراءة نقدية لأنه سوف يُرمى بالإلحاد والهرطقة كما رُمى غيره، ولن يكون مصيره أحسن حالاً ممن سبقوه. ففي العصر الحديث هناك عِدّة كُتّاب وباحثين أصابهم الأذى من المتشدّدين عندما حاولوا دراسة الإسلام دراسة نقدية. فالكاتب الإيراني "علي الدشتي" سجنه الخميني لمدة ثلاثة سنوات ومات في ظروف غامضة إثر نشر كتابه "ثلاثة وعشرون عاماً" الذي انتقد فيه الإسلام. وفي مصر عندما قال الشيخ علي عبد الرّزاق، و هو من شيوج الجامع الأزهر، بوُجوب فصل الدّين عن الدولة، قامت الدنيا ولم تقعد حتى تكوّنت لجنةٌ من "العلماء" الإسلاميين لمحاكمتة في عام 1925، وأصدرت حكمها بإدانة عبد الرزاق وفصله من منصبه بالجامع الأزهر ومنعِه من تقلّد أيّ منصب ديني في البلاد. وحتى الدكتور طه حسين عندما علّق على بعض النّقاط في القرآن في كتابه "الشعر الجاهلي"، ثارت ثورة المتعصّبين حتى طُرد الدكتور طه حسين من جميع مناصبه الحكومية. وفي السّودان عندما أنشأ الأستاذ محمود محمد طه حزب "الإخوان الجمهوريين" وحاول تقليل دور الشريعة في قوانين الدولة، اتهموه بالإلحاد وحرقوا كتبه. ولما قال الأستاذ محمود محمد طه أنه وصل مرحلةً من العلم جعلت الفرائض العادية كالصلاة لا تنطبق عليه، و هي نفس المقولة التي قالها الصّوفيون في القرن الحادي عشر، وجد الإسلاميون فرصتهم سانحة فحكموا عليه بالإعدام وشنقوه عام 1985

وإذا رجعنا إلى ما يسمى بالعصر الذّهبي للإسلام، وهو عصر الدولة العبّاسية، وقبله لفترة وجيزة، الدولة الأموية، نجد أنّ الّذين تجرّأوا وانتقدوا الإسلام لاقوا نفس المصير الذي لاقاه المتنوّرون في العصر الحديث. فعندما اعتلى الخليفة المأمون العرش، تبني أفكار المعتزلة وقال أنّ القرآن مخلوق، وجعل أجهزة الدّولة تُملي هذا الرأي على العلماء. ولكن عندما تولى المتوكل زِمام الأمور في عام 847 أصدر أوامره بعقاب كلّ من يقول أنّ القرآن مخلوق. وسرعان ما أمسك الرجعيون بهذه الذريعة ورَمَوْا كلّ من تجرأ و أظهر أيّ رأي مخالف لهم بالزندقة. وحتى في الدولة الأموية اتهموا المتنورين بالزندقة وقتلوهم. وكان أول من قتلوه بتهمة الزندقة رجل يُدعى "جادّ بن درهم"، قُتل بأمر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك عام 742. وكانت جريمة هذا الرجل أنه قال أنّ الله لم يكلم موسى ولم يتخذ إبراهيم خليلاً. وفي عهد الخليفة العباسي المنصور بدأت محاكم التفتيش ضد الزنادقة، وعينوا مفتشاً عاماً كان يُعرف باسم "صاحب الزنادقة". وفي هذه الفترة قتلوا كلّ من شكّوا فيه، وكان من جملة الذين قُتلوا الفقيه الفيلسوف الشاعر "ابن المقفع" الذي انتقد الإسلام ورسوله محمّد، وكذلك "إبن أبي العوجاء". وكذلك الشاعر "بشّار بن بُرد" الذي قُتل عام 784، و "صالح بن عبد القدوس" الذي قتُل عام 783، و "أبو عيسى محمد بن هارون الورّاق" نفوه إلى "الأهواز" ومات بها عام 909. وأخيراً وليس آخراً الفيلسوف الصّوفي "حسين بن منصور (الحَلاَّجْ)"، وقد كان متصوفاً يحب الذّات العليا ويكاد يندمج معها من كثرة حبه لها. دعاه هذا الحب إلى ان يقول " أنا الحق". وبما أنّ الحق ّإسم من أسماء الله الحسنى التي احتكرها لنفسه، اتهموا الحَلاّجَ بالزندقة وحكموا عليه بالصّلب. وعندما رأى الصّليب منصوباً والناس متجمهرة حوله قال، مخاطباً الله: "وهولاء عبيدك الذين اجتمعوا هنا اليوم لقتلي دفاعاً عن دينك وطمعاً في كسب أجرك، اغفر لهم يا ربي وأغدق عليهم رحمتك".

و المضحك المبكي أنّ جميع علماء المسلمين النوابغ (أكرّر: جميعهم و بدون استثنان) الذين اهْتَمُّوا بالفلسفة والعلوم الطبيعية والرّياضيات و علم الإجتماع (علماء بولي فلون)، اتُّهموا بالزّندقة و رَمَاهُمْ فقهاء المسلمين بالكُفر. وهَاكُمْ أسماء هؤلاء العلماء البارزين منهم، واللاّئحة أطول من هذا السرد العابر:الفلكيُّون الفزاري و البتّاني، و عبقريّ الهندسة البيروني، و الطّبيب الـجَرَّاح ابن سينا، و الطّبيب الفذّ الرّازي ، و عبقريّ الفيزياء إبن الهيثم، و رائد علم الكيمياء جابر بن حيّان، و رائد علم الإجتماع إبن خلدون، و الفيلسوف إبن العربي، و الفارابي و الكَندي و إبن ماجة و إبن الطّفيل و أبو العلاء المعرّي، و كبيرهم و صاحب الفضل على التطوّر الفكري في أوروبا الحديثة، الفيلسوف و النّابغة "ابن رشد" الذي هضم ثم أعاد صياغة فلسفة جميع من سبقوه في مفهوم أتاح للغرب تلك الإنطلاقة الصّاروخيّة في جميع المجالات العلميّة (من يتساءل الآن عن مدى تأثير و فضل الفلسفة على العلوم الأخرى فأنصحه بمراجعة المقرّرات الثانويّة: لا يمكن لأيّ علمٍ أيّاً كان من الإنطلاق دون طرح أسئلة مُسْبَقَةٌ، و هي فلسفيّة في الصّميم).

والمأساة الحقيقية أنّ كلّ رجال الدّين من إغريق وفرنسيين و إسبانيين و عرب وغيرهم وضعوا نُصب أعينهم صخرةً ضخمة تُمثّل في أذهانهم الدّين الحق الذي لا يتغير ولا يتطور. وفات عليهم أن يروا ما بداخل الصخرة. ويُحكى أنّ طفلاً مر على نحّات كان يتأمل صخرةً من الجرانيت، وقال الطفل للنحات: "ما الذي تبحث عنه ؟ فقال له النحات: أصبر بضعة أيام وسوف تعرف. وبعد مرور عدة أيام رجع الطفل للصخرة ورأى مكانها تمثالاً لحصان. وأُعجب الطفل بالحصان وظل يتأمله لفترةٍ ثم قال للنحات: إنه حقاً حصانٌ جميل، ولكن كيف عرفت أنه كان داخل الصخرة

لا نحتاج أن نقول أنّ عاصفة محاكم التفتيش والتّزمّت الدّيني التي اجتاحت أوربا في القرون الوسطى قد ماتت وانقشع غمامها ولم يعد الدّين في أوربا فرضاً على الناس ولم يعد رجال الدّين فؤوساً مسلطةً على رقاب الناس. الأوربيون الآن اقتنعوا أنّ الدّين مسألةٌ شخصية بين الإنسان وربه ولا دخل للدولة فيها ولا لرجال الدّين في الدولة. وفي المستقبل الذي قد يكون بعيداً ستنقشع غَمامةُ التعصب الدّيني عن الإسلام والمسلمين، ويكتشف المسلمون عقولهم ويبدأون عملية التّفكير في الدّين ونقد ما لم يكن مسموحاً لهم بنقده. وبذا يتخلّصون من العقلية التي سمحت ل"الطّلبان" بإرجاع أفغانستان أربعة عشر قرناً للوراء، و أنجبت لنا منظمة "القاعدة" التي جعلت حياة المسلمين في أمريكا وأوروبا كحياة المجرمين الذين لا يتجرّأون على دخول أيٍ من مطارات العالم خوف المذلة التي يتعرضون لها.

نعم إنّ العالم العربي يمر في مرحلة عصيبة، ولكن من المسئول عن هذه المحنة التي يمر بها العرب والمسلمون عامة ً؟ لا شكّ أنها من صنع العرب والمسلمين أنفسهم ورغبتهم العارمة بالرجوع بأنفسهم إلى عصر الإسلام الذهبي قبل أربعة عشر قرناً من الزّمان. وقاد هذا الهَوَسُ بالماضي الجماعات السّلفية إلى تنفيذ فاجعة 11 سبتمر عام 2001 التي جعلت الإسلام مرادفاً للإرهاب والمسلم مرادفاً للإرهابي، وقسّموا العالم إلى معسكرين متناحرين في رأيهم: "إما فسطاط الإيمان أو فسطاط الكفر... وإما نحن وإما هم ولا يمكن التعايش بينهما!!" على غِرَارِ بعض المتشددين الغرببّين الذين قالوا: "الغربُ غربٌ والشرقُ شرقٌ ولا يلتقيان". وهذه النزعة الإنتحارية هي ضدّ الإنسانية والحضارة العالميّة، ناهيك عن تناقضها تماماً مع روح الأديان وجوهرها.

فالتيار الإسلامي قد تصاعد بقوّة في أواخر سبعينات القرن الماضي و مع تدفق "البترودولار"، حتى بات رقما هامًّا في المعادلة السّياسية و الإجتماعيّة المعاصرة. ويُعَبّر هذا التّيار عن نفسه من خلال الدّعوة إلى تطبيق الشّريعة الإسلامية في شتى مناحي الحياة وعودة الإسلام إلى قلب الصراع السّياسي و الإجتماعي. ولماّ كان الخطاب الإسلامي مبنيا أساسا على الدّين، كان من الطبيعي أن يجد القُبول من قِبَلِ قطاعٍ واسعٍ من البشر الذين يمثل الدّين بالنسبة إليهم موضوع اعتزازهم وحماسهم، فالمجتمع العربي كان وما يزال مجتمع عاطفيا متديّنا يستطيع أصغرُ رَجُلِ دينٍ أن يُجَيِّشَ مشاعره ويحشد الناس تحت لوائه.

ولفهم طبيعة الخطاب الإسلامي المعاصر لا بدّ أولا من التّأكيد على حقيقة هامّة، وهي أنّ التّيار الإسلامي هو جزء من ظاهرة التديّن السياسي التي شهدها العالم أواخر السّبعينيات والتي تمثلت في صعود الحركات الأصولية المسيحية واليهودية والهندوسية.
ورغم تباين هذه الأصوليات فكريا وعقائديا إلاّ أنها في النّهاية تشترك في عدّة مظاهر، منها الإستعلاء على الآخر ،والرفض الكامل والحاسم لكل ما يتعارض مع رؤيتها ورفض التّعايش معها، واعتماد القوالب الجامدة والأحكام المقرّرة سَلَفًا مكان الصيرورة الفكرية

1 commentaire:

silhouette a dit…

عزيزي هانيبال

انا مثلك اتمنى ان تنقشع غمامة الدين ويُترك الناس ليختاروا ربهم الذي يرغبون,, او لا يختاروه,, وتُصرف الطاقات والامكانيات للعلم والتطور ,, اعتقد ان قسوة الدين ستدفع بالكثيرين المتضررين بالاتجاه الاخر وخصوصا ان الوصول للمعلومة والحقيقة اصبح متاحا للكثيرين من العامة ولم يقتصر استقاء الناس لمعلوماتهم من المدرسة والمسجد كما كان بالسابق