jeudi 10 janvier 2008

الخطاب الإسلامي المعاصر










مع توالي الايام يتضح جليا ان أخطر الإسلاميّين هم من يزعمون الإعتدال بينما هم متطرّفون و رجعيّون

فالجماعات الإسلاميّة تُروِّج في إطار الحملات الإنتخابية مجموعة من الأفكار المزيّفة، ويقدّمون أنفسهم كحُماة للديمقراطية والتعدّدية الفكرية والسّياسية، وفي الوقت نفسه يقحمون الدّين في معترك السياسة والإنتخابات، وليس من سواهم متحدّثا رسميا بإسم الدّين وبإسم الله ورسوله، ومن ثم فقد إحتكروا صكوك الغفران يمنحوها لمن يرضوا عنه ويحجبوها عن من خالفهم في الفكر وفي الرؤى. من هنا يتّضح مدي الزّيف والكذب في مضمون خطابهم، وأنهم ألدّ أعداء الإنسانيّة، وهم لا يؤمنون حقيقةً بالتّعددية، ولا يعترفون بالآخر في حقيقة الأمر، إذ يؤمنون بالدولة الدّينية، عِلماً بأنّ الإسلام لا يعرف الدّولة الدّينية، ولكنهم يُوهِّمون النّاس بشعارات دينيّة وُصولاً إلى هدفهم الحقيقي ألا وهو الحكم، ولا يطرحون برامج حقيقيّة نستطيع أن نناقشها ونختلف أو نتّفق حولها. ومجرّد طرحهم فكرة الدّولة الدّينية فهي في الأساس فكرة إستبدادية، إذ أنّهم حين يحكمون سيحكمون بإسم الدّين، ومن يستطيع أن ينازعهم وهم الحاكمون بما أنزل الله، من وجهة نظرهم، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون....... و هنا بيت القصيد، فكافّة قراراتهم وتشريعاتهم وسياساتهم إنما صدرت عنهم بإسم الله...ماذا بقى للمعارضة حتى تتداول فيها قبولا أو رفضا
.
الدّيمقراطية حينئذ ستكون "رجس من عمل الشيطان" فإنها بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار، والبديل الشرعي لها ما يسمي ب"الشّورى"، والشّورى لن تكون إلاّ مع "أهل الحلّ والعقد"، وأهل الحلّ والعقد ليسوا إلاّ جماعتهم ورموزهم من "أهل الثّقة". وهم يروّجون ما ينادون به من تطبيق أحكام الشّريعة الإسلامية التي تَصلُح للتّطبيق في كلّ زمان ومكان، حيث لم تترك كبيرة ولا صغيرة إلا وأتت بها، ونسوا أو تناسوا حقيقة الأمر، وما ورد عن النّبي "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وأن القرآن جاء في بعض الأمور بأحكام تفصيلية كالميراث والزّواج والطّلاق مثلا ولكن لم يأت بتفاصيل كلّ الأمور، وإلاّ فقل لي كيف نحدّد سعر الصّرف للعملة الوطنية ؟ وكيف نعالج حالة التّضخم ؟ وأمور أخري كثيرة. ناهيك عن السّلفيّين الّذين يحلمون بالإستبداد بالحكم بإسم الدّين و يروّجون بشعارات تشدّ عامة النّاس مثل تطبيق أحكام الشريعة، ولو راجعنا مثلا قوانين الأحوال الشخصية في مصر تجدها جميعا مستمدة من أحكام الشريعة. القانون المدني بكامله والمتضمن ألف ومائة وتسع وأربعون مادة لا يخالف أحكام الشّريعة الإسلامية، اللّهم إلاّ مادّة وحيدة الخاصّة بالفوائد القانونية والتجارية وحتى الحكم الشّرعي في هذا الأمر فيه روايات متعدّدة. إذن أيّة شريعة وأيّة أحكام تَسعَون إلى تطبيقها أيّها المُتاجرون ؟ الحكم بإسم الدّين مستبدّ بطبيعته، كيف أخالف أو أعارض قانونا صدر بإسم الدّين ؟ كيف أختلف مع حكومة تحكم بإسم الله ؟ إنّ شيوخ الإسلام في هذه الأيام قد اتقنوا دور "صاحب الألعاب السّحريّة و البهلوانيّة" وأصبحوا لا يسافرون إلى أيّ مؤتمر، وما أكثر مؤتمراتهم، إلاّ ويحمل كلّ منهم "جرابه السّحري" معه. وخير مثال على ذلك هو مؤتمر الدوحة الذي عُقد في الفترة 20-22 يناير2007 في قطر لمحاولة التّقارب بين المذاهب الإسلامية
.
ومع كثرة المذاهب الإسلامية التي لا يعترف بها أهل السُّنة، فقد اقتصرت الدّعوة للمؤتمر على فقهاء السُّنة والشّيعة رغم أنّ القرآن يقول "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي بغت حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إنّ الله يحب المقسطين"(الحُجُرات :9)، فرغم كلّ هذا الحرص من الله ورسوله على وحدة المسلمين وعدم الاقتتال بينهم، نجد أنّ الفقهاء السَّحَرَة الذين اشتركوا في مؤتمر الدوحة، ما كان يعنيهم القتال الدائر بين المسلمين في العراق وسفك الدماء اليوميّ الذي طال حتى الآن أكثر من مائتان وعشرين ألف شخص، بقدر ما كان يعنيهم تحوّل بعض السُّنة العراقيين إلى المذهب الشّيعي، أو العكس. فبعد أن أخرج كلّ مشترك من جرابه أحاديث وآيات يحاول بها إثبات تفوّق مذهبه على المذهب الآخر، وبعد أن تلاسنوا وتشاجروا في أهمية واحترام السّيدة عائشة، زوجة الرسول الطِّفلة، والتي يحتقرها الشّيعة لمواقفها العدوانية من الخليفة علي بن أبي طالب، في حين يبجّلها أهل السُّنة لأن النّبي كان يفضّلها على أزواجه الأُخريات وقال عنها "خذوا نصف دينكم عن الحُمَيْرَاءْ"، اتفق السَّحَرَة على أن يختلفوا، وأصدروا قرارات بليدة تعزّز التفرقة، وقالوا في إحدى هذه القرارات "لا يجوز التّبشير لمذهب التّشيع في بلاد أهل السُّنة أو للتَّسَنُّنِ في بلاد الشّيعة". وأضاف الشّيخ القرضاوي "كبيرهم الذي علّمهم السحر" ورئيس اتحاد علماء المسلمين الذي يضم ممثلين من الشّيعة، مخاطباً السَّحَرَة الشّيعة: "ماذا ينفعكم أن تدخلوا بلداً سُنِّيّاً وأن تحاولوا أن تكسبوا أفراداً للمذهب الشّيعي ؟" وأضاف كذلك "لا يجوز أن يحاولَ مذهبٌ نشرَ مذهبه في بلاد خالصة للمذهب الآخر". وإذا أخذنا في الاعتبار بأنّ المؤتمر عُقد لمحاولة التّقارب بين المذهبين السُّني والشّيِعي، نُدرك مدى عُقْمِ الفكر الدّيني الإسلامي وعدم مقدرته على التّقدم والتّأقلم مع الواقع، وعدم مقدرته على الخروج من الصَّدَفَة السّلفية التي تقوقع فيها على مر العصور. فالإسلام طِوال تاريخه الطّويل لم يعرف التّبشير، إذ كان قد انتشر بالغزوات والسّيف، ولم يعرف حرية الاختيار في العقيدة
.
والمأساة الكبرى في عالمنا أنّ السَّحَرَة يشدّون الرحال للمؤتمرات العالمية وفي جواربهم السِّحرية القرارات المسبّقة التي لا بدّ أن يرجع بها كلّ فريق، ويتعشّمون بنهاية المؤتمر أن يكون "كلّ فريق بما لديهم فرحون". وطبعاً المؤتمرات لا تعمل بهذه التّقنية الإسلامية، فمؤتمرات التّحاور تستدعي تنازل كلّ فريق عن بعض المواقف حتى يلتقي المؤتمرون في نقطةٍ سواءٍ بينهم. فمثلاً عندما هاج العالم الإسلامي وماج مع قصّة "الرّسوم الكاريكاتيرية" عن النّبي محمّد ودعت الدّنمارك رجال الدّين المسلمين إلى مؤتمر يُعقد في "كوبنهاجن" للتّقارب بين وِجهات النّظر ومحاولة حلِّ الأزمة، طالب رجال دين مسلمون في كوبّنهاغن الدّنمارك بتقديم اعتذارات رسمية وذلك قبل افتتاح مؤتمرٍ يُفترض أن يُسهم في إخماد التَّوتُّر النّاجم عن قضية الرّسوم الكاريكاتورية للنّبي محمّد. وقدّم هذا الطّلب الدّاعية المصري عمرو خالد "الحِِِِِلِِوَّهْ" (روميو الإسلاميّين و من أشهر ممثّليهم، حيث فاز بجائزة "أوسكار" للتمويه و "سْبَشِلْ إفَاكْتْ" في المهرجان الإسلامي "الصّحوة الإسلاميّة") في مؤتمر صحافي قبل افتتاح المنتدى حول الحوار الثّقافي والدّيني الذي ترعاه وتموّله الحكومة الدّنماركية في كوبّنهاغن بمشاركة خبراء مسيحيين ومسلمين (إيلاف، 10 مارس 2006). وأضاف عمرو خالد "أنّ على الحكومة الدنماركية أن تقوم بعدّة أشياء، عليها أن تقدّم اعتذارات وحتى الإعتذارات لا تبدو كافية نظرا للمشاكل المتراكمة لهذه القضية" انتهى.
فإذا كانت هذه مطالب عمرو خالد قبل بدء المؤتمر، ماذا سوف يناقشون في المؤتمر؟ وكنتيجة لهذه القرارات المسبّقة فقد فشل مؤتمر كوبّنهاغن ولم يخرج بأيّ قرارات ولم تعتذر الحكومة الدّنماركية
واستفاد السَّحَرَة من رحلةٍ إلى الدّنمارك التي لم يكونوا قد زاروها من قبل.وإذا نظرنا إلى مقرّرات مؤتمر الفقه الإسلامي في دورته الخامسة تي عُقدت في "مسقط"، نجد قراراً يقول "إنّه لا يجوز أن يؤدّي تجديد الخطاب الإسلامي، بدعوى مواكبة المتطلّبات والمعطيات العصرية، إلى تغيير الثّوابت أو التّخلّي عن أيّ مبدأ من مبادئ الإسلام أو الأحكام الشّرعية المقرّرة"، وطبعاً كلّ شيء في الإسلام من معاملة المرأة إلى معاملة الذِّمِّي، إلى امتلاك العبيد والجواري، هو من الثّوابت، وهذا يعنى أنّه لا تجديد في الإسلام ليواكب العصر. ولا بدّ أنّ هذا القرار كان قد اتُّخِذَ قبل بدء المؤتمر، ونستطيع أن نُخمِّن أنه أُتخذ منذ تكوين "رابطة الفقه الإسلامي". فإذا كان هذا هو موقف الفقهاء من التّحديث ومعاملة الآخر، فما فائدة عقد المؤتمرات ؟ وأغلب مؤتمرات الحوار لا تفعل أكثر من إعادة إختراع العجلة عدّة مرّات.

فإذا أخذنا مؤتمر مكّة الأخير الذي عُقد لمحاولة وقف الاقتتال في العراق، وسمَّوا قرراته "وثيقة مكّة" ووقّّع عليها علماء من السّنة والشّيعة،ورد فيها تأكيد على حرمة إراقة الدّم العراقي وتحريم تكفير المسلمين ودعوةً لتعزيز المصالحة الوطنية في العراق (الشرق الأوسط 23 أكتوبر 2006). فهل كُنَّا نحتاج إلى عقد مؤتمر لنعرف أنّ الدّم العراقي (المسلم وغير المسلم) حرام في العُرف الدّولي، ودم المسلم فقط حرام في العُرف الإسلامي ؟ ألا يعرف كلّ طالب في المرحلة الإعدادية في البلاد الإسلامية الحديث الذي يقول: "المسلم على المسلم حرام، ماله ودمه وعرضه". ألا يعرف كلّ تلميذ ثانوي في البلاد الإسلامية الآية التي تقول "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً ومن قتل مؤمناً خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة وديّة مُسَلَّمَةٌ إلى أهله" ؟ (النساء : 92). وكالمتوقع من سَحَرَة المسلمين الذين يشابهون الشّعراء في أنهم يقولون ما لا يفعلون، فقد زاد الاقتتال بين السّنة والشّيعة بعد هذا المؤتمر الذي وقّع على قراراته نفس السَّحَرَة الذين يدعّمون مليشيات الموت والتفجير في العراق. و مشكلة المسلمين هي أنهم لا يهتمون للنتائج بقدر اهتمامهم بمظهر الوحدة بين المسلمين، وأنهم على حقٍّ ما داموا مجتمعين لأن النّبي قال "لا تجتمع أمّتي على ضلال". وما أبعد الاجتماع عنهم.

والمذاهب الإسلامية الرئيسية: المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي والجعفري والأباظي والزيدي والظاهري، رغم الخلاف بينهم، يتّفقون على أنّ الإسلام هو الدّين الوحيد المقبول عند الله وأنه أحسن الأديان وأن نبيه خير العباد. وكلّهم يتّفقون على ولاية الفقيه أو الحاكمية الإلهية التي تجعل من الإسلام ديناً ودولة. وبما أنّ الإسلام أفضل من الأديان الأخرى فإن أتباعه ليسوا على استعداد لأن يتعلّموا من أخطاء الأديان التي سبقتهم. فالكنيسة قبلهم قد جعلت من المسيحية ديناً ودولة وحكمت البابوية الكاثوليكية أوربا بالإنابة عن الله عدّة قرون. وعندما جاء "كَالْفِنْ" وأقام أوّل دولة دينيّة بروتستانتينية في سويسرا في القرن السادس عشر الميلادي، وزعم أنّ البروتستانية دين ودولة وأنّه يحكم باسم الإله الحق، صدّقه الجهلاء والمعدمون وهلّلوا لله وكبّروا. ثم أفسدته السّلطة الإلهية التي تقمّصها دون أن يتسلّح بالعلم السياسي الذي يستدعي نوعاً آخراً من الحاكمية غير التي يطبّقونها بالإنابة عن الله. فحاكمية السّماء غير حاكمية البشر. الله يحكم الأفلاك ودورانها وجميع القوانين الطّبيعية، لكنّه لا يحكم خليفته في الأرض، فهو، كما يقول القرآن، جعله خليفةً في الأرض والخليفةُ يتصرّف حسب ما يراه مناسباً ثم يحاسبه الذي استخلفه. فالله لو أراد أن يحكم الناس لنزل إليهم وحكم فيهم. ولأنّ الكنيسة الكاثوليكية وكذلك البروتستانتيه لم يكونا يحكمان بتفويض من الله كما زعم قادتهما، فقد تعثرت خُطَى الكنيستين لعدم ملاءمة قوانينهما السّماوية لمجريات الأمور على الأرض، وفشلت الحكومتان وتشتّت قادتهما واتباعهما إلى مذاهب عِدَّة لا يعترف أي منهم بالآخرين. ومع أنّ كتب الأحاديث الإسلامية تنقل لنا حديثاً عن نبيّ الإسلام المعصوم والذي كان يعلم الغيب كما يزعمون، يقول فيه للمسلمين "ليأتين على أمّتي ما أتى على بني إسرائيل، حَذْوُ النّعل بالنّعل حتىّ إنْ كان منهم من أتى أمّه علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك، وإنّ بني إسرائيل تفرّقت على ثنتين وسبعين ملّة وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين ملّة كلّهم في النار إلا ملّةً واحدةً" (تحفة الأحوذي، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة)، نجد سَحَرَة المسلمين يُصرّون على الغوص في جواربهم والإتيان بمقولتهم المشهورة عن وحدة هذه الأمّة التي يستحيل لها أن تتوحّد لاعتقاد كلّ فريق منهم أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة وغيرهم على ضلال
,
على المسلمين أن يقبلوا أنّ رسولهم كان على حق وأنهم قد تفرّقوا إلى ثلاث وسبعين فرقة ولن يتوحّدوا أبداً، أو أنّ نبيهم كان مخطئاً وهم أمة احدة. وليس هناك من شك في أنّ حكوماتهم الإسلامية وقوانينهم الإلهية المبالغة في قسوتها وعدم إنسانيتها، سوف تفشل كما فشل حكومات الكنائس قبلهم. وقد ظهر هذا جلياً في الحكومات الإسلامية منذ العهد الأموي حتى الآن، بما في ذلك الحكومات الحديثة مثل "طالبان" وحكومة الملالي في إيران وحكومة التُّرابي في السودان وحكومة المحاكم الإسلامية في الصومال، والآن تفشل أمام أعيننا الحكومة الشيعية في العراق و حكومة "حماس" في فلسطين؛ فهل يتعظون ؟وفي زمان غابر عندما كان الجهل يسود المجتمعات الإنسانية زعم "أَيَاكُسْ" إبن الإله "زيوس"، عندما قضى مرض الطاعون على جيشه، أنه حوّل النمل إلى رجال يحاربون في جيشه وصدّق العامة المتشوّقون إلى الإيمان هذه الخرافة، كما يصدّق المسلمون أنّ النملة تحدثت إلى بقية النمل ونصحتهم بدخول جحورهم حتى لا يطأهم سليمان وجنودَه
,
وبما أنّ الإسلام يعتمد في إقناع الناس به، بعد السيف، على الغيبيات والمعجزات التيّ تتغلّب على قوانين الطّبيعة، فإنّ أتباعه لا يختلفون عن أتباع"أياكس"، ولذلك يسهل على سَحَرَة المسلمين تكرار الخديعة بإخراج معجزات جديدة من جواربهم كلّما فشل المجتمع الإسلامي في سعيه نحو الوحدة المزعومة. فمثلاً يردّد لنا السَّحَرَة "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا" (آل عمران :103) مخاطباً الأنصار خاصّة زمن نزول الآية والمسلمين عامّة إلى قيام السّاعة. وليس هناك من يسأل السّاحر: "لماذا ألّف الله بين قلوبهم في بداية الإسلام وهم قلّة وكان يمكنهم أن يُؤلّفوا بين قلوبهم بأنفسهم نِسبةً إلى قلّة عددهم وكونهم ينتمون إلى قبيلتين فقط هم "الأوس و الخزرج"، والآن هم أكثر عدداً وأكثر عداوة لبعضهم البعض و أكثر تفرّقاً واختلافاً، لماذا لا يُوحِّد الله بينهم فيصبحون بفضله إخوانا ؟ هل تخلى الله عن خير أمّة أخرجت للناس، أم أنّ السَّحَرَة مازالوا يسيطرون على العقول و يمنعونها من التفكير بمثل هذه الأسئلة ؟".وخلاصة القول أنّ الأقطار الإسلامية إذا أرادت أن تلحق بركب الحضارة فعليهم رجم السَّحَرَة وفصل الدّين عن الدّولة كما فعلت أوربّا بعد تجارب مريرة، لأن التّاريخ يعيد نفسه وما حدث في أوربّا سوف يحدث في البلاد الإسلامية شاءوا أم أبوا
,
فالدّين يجب أن يكون أمراً خاصاً بين الشخص ومعبوده، والدولة والحكومة أمرٌ يخصّ جميع الناس ويعتمد على تجاربهم وحاجاتهم ولا دخل للسَّحَرَة و للغيبيات به

هذه كانت أهم المرتكزات الفكرية التي يقوم عليها الخطاب الإسلامي المعاصر
هانيبال

dimanche 6 janvier 2008

محاكم التفتيش "2




التعصب الدّيني ليس وَقْفاً على الإسلام، ففي عام 399 قبل الميلاد عندما كانت أثينا باليونان مركزاً للآلهة اليونانيين الذين سكنوا الأكروبوليس"، حكمت محكمةٌ في "آثينا" على سقراط، أعظم الفلاسفة على الإطلاق، بأن يشرب السّم ويموت لأنه لم يؤمن بآلهتهم الذين كانوا يسكرون ويتشاجرون فيما بينهم، تماماً كما كان يفعل سكّان آثينا، ومات سقراط مسموماً
وفي القرن السادس عشر بعد الميلاد عمّت أوربا المسيحية موجةٌ من التعصب الكَنيسي لم يسبق لها مثيل. وتبارت المدن في إنشاء محاكم التفتيش التي انطلقت من إسبانيا. وفي العام 1553 تمت إدانة طبيب إسباني كان يعمل في سويسرا بالهرطقة. أسم هذا الطبيب هو "ميكائيل سرفيتيوس". حكموا عليه بأن يُحرق حيًّـا لأنه رفض أن يؤمن بتعميد الأطفال وبالثالوث "الله والإبن والروح القدس"، ونُفّذ الحكم يوم 27 أكتوبر 1553.
وفرنسا التي نقول عنها داعرة، كانت في قبضة "محاكم التفتيش" كذلك. ولما شعر رجال الكنيسة في فرنسا أنّ سويسرا قد فازت بجائزة حرق "سرفيتيوس"، صنعوا تمثالاً لسرفيتيوس وحرقوه حتى لا يفوتهم أجر حرق الملحدين. وقام زعيمهم "ميلانكتون" وخطب فيهم وحمد الله على معاقبة هذا الرجل الملحد وقال إنّ حرقه يدل على ورع أهل سويسرا. شخص واحد فقط تجرأ على الدفاع عن سرفيتيوس وهو "جوريس البازلي" ولكنه نشر دفاعه تحت أسمٍ مستعار. ولما توفى جوريس واكتشفوا أنّه هو الذي دافع عن سرفيتيوس، نبشوا قبره و أخرجوا جُثّته وحرقوها عام 1566.

وفي الشام كانت هناك فيلسوفة وثنية إسمها "هيبا شيا الإسكندارية" كانت تُعلّم الناس الأفلاطونية المُحْدَثَة ورفضت تهديدات الأسقف "كيرلس" لها لتعتنق المسيحية. فسلّط الأسقف عليها زبانيته من الرهبان والجنود في جيش الكنيسة، فترصّدوا بالفيلسوفة وانتزعوها من عربتها وسحبوها إلى كنيسة قيصرون وراحوا يلهون بتجريدها من ملابسها ثم جروها إلى الشارع ورجموها بالحجارة فلما أصبحت جثة هامدة مثّلوا بها أشنع تمثيل إذ قطعوها إرباً وألقوا بعض أشلائها طعماً للنيران، ودفنوا ما بقى من أشلاء في مكان خَرِبٍ.

و فقهاء المسلمين لم يكونوا أقل ورعاً من زملائهم السويسريين، فقتلوا المفكرين بحجة الزندقة.

فمنذ أن أغلقوا باب الإجتهاد قبل ستمائة عامٍ في القرن الرابع عشر، لم يتجرأ أحد أن يَقرأ الإسلام قراءة نقدية لأنه سوف يُرمى بالإلحاد والهرطقة كما رُمى غيره، ولن يكون مصيره أحسن حالاً ممن سبقوه. ففي العصر الحديث هناك عِدّة كُتّاب وباحثين أصابهم الأذى من المتشدّدين عندما حاولوا دراسة الإسلام دراسة نقدية. فالكاتب الإيراني "علي الدشتي" سجنه الخميني لمدة ثلاثة سنوات ومات في ظروف غامضة إثر نشر كتابه "ثلاثة وعشرون عاماً" الذي انتقد فيه الإسلام. وفي مصر عندما قال الشيخ علي عبد الرّزاق، و هو من شيوج الجامع الأزهر، بوُجوب فصل الدّين عن الدولة، قامت الدنيا ولم تقعد حتى تكوّنت لجنةٌ من "العلماء" الإسلاميين لمحاكمتة في عام 1925، وأصدرت حكمها بإدانة عبد الرزاق وفصله من منصبه بالجامع الأزهر ومنعِه من تقلّد أيّ منصب ديني في البلاد. وحتى الدكتور طه حسين عندما علّق على بعض النّقاط في القرآن في كتابه "الشعر الجاهلي"، ثارت ثورة المتعصّبين حتى طُرد الدكتور طه حسين من جميع مناصبه الحكومية. وفي السّودان عندما أنشأ الأستاذ محمود محمد طه حزب "الإخوان الجمهوريين" وحاول تقليل دور الشريعة في قوانين الدولة، اتهموه بالإلحاد وحرقوا كتبه. ولما قال الأستاذ محمود محمد طه أنه وصل مرحلةً من العلم جعلت الفرائض العادية كالصلاة لا تنطبق عليه، و هي نفس المقولة التي قالها الصّوفيون في القرن الحادي عشر، وجد الإسلاميون فرصتهم سانحة فحكموا عليه بالإعدام وشنقوه عام 1985

وإذا رجعنا إلى ما يسمى بالعصر الذّهبي للإسلام، وهو عصر الدولة العبّاسية، وقبله لفترة وجيزة، الدولة الأموية، نجد أنّ الّذين تجرّأوا وانتقدوا الإسلام لاقوا نفس المصير الذي لاقاه المتنوّرون في العصر الحديث. فعندما اعتلى الخليفة المأمون العرش، تبني أفكار المعتزلة وقال أنّ القرآن مخلوق، وجعل أجهزة الدّولة تُملي هذا الرأي على العلماء. ولكن عندما تولى المتوكل زِمام الأمور في عام 847 أصدر أوامره بعقاب كلّ من يقول أنّ القرآن مخلوق. وسرعان ما أمسك الرجعيون بهذه الذريعة ورَمَوْا كلّ من تجرأ و أظهر أيّ رأي مخالف لهم بالزندقة. وحتى في الدولة الأموية اتهموا المتنورين بالزندقة وقتلوهم. وكان أول من قتلوه بتهمة الزندقة رجل يُدعى "جادّ بن درهم"، قُتل بأمر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك عام 742. وكانت جريمة هذا الرجل أنه قال أنّ الله لم يكلم موسى ولم يتخذ إبراهيم خليلاً. وفي عهد الخليفة العباسي المنصور بدأت محاكم التفتيش ضد الزنادقة، وعينوا مفتشاً عاماً كان يُعرف باسم "صاحب الزنادقة". وفي هذه الفترة قتلوا كلّ من شكّوا فيه، وكان من جملة الذين قُتلوا الفقيه الفيلسوف الشاعر "ابن المقفع" الذي انتقد الإسلام ورسوله محمّد، وكذلك "إبن أبي العوجاء". وكذلك الشاعر "بشّار بن بُرد" الذي قُتل عام 784، و "صالح بن عبد القدوس" الذي قتُل عام 783، و "أبو عيسى محمد بن هارون الورّاق" نفوه إلى "الأهواز" ومات بها عام 909. وأخيراً وليس آخراً الفيلسوف الصّوفي "حسين بن منصور (الحَلاَّجْ)"، وقد كان متصوفاً يحب الذّات العليا ويكاد يندمج معها من كثرة حبه لها. دعاه هذا الحب إلى ان يقول " أنا الحق". وبما أنّ الحق ّإسم من أسماء الله الحسنى التي احتكرها لنفسه، اتهموا الحَلاّجَ بالزندقة وحكموا عليه بالصّلب. وعندما رأى الصّليب منصوباً والناس متجمهرة حوله قال، مخاطباً الله: "وهولاء عبيدك الذين اجتمعوا هنا اليوم لقتلي دفاعاً عن دينك وطمعاً في كسب أجرك، اغفر لهم يا ربي وأغدق عليهم رحمتك".

و المضحك المبكي أنّ جميع علماء المسلمين النوابغ (أكرّر: جميعهم و بدون استثنان) الذين اهْتَمُّوا بالفلسفة والعلوم الطبيعية والرّياضيات و علم الإجتماع (علماء بولي فلون)، اتُّهموا بالزّندقة و رَمَاهُمْ فقهاء المسلمين بالكُفر. وهَاكُمْ أسماء هؤلاء العلماء البارزين منهم، واللاّئحة أطول من هذا السرد العابر:الفلكيُّون الفزاري و البتّاني، و عبقريّ الهندسة البيروني، و الطّبيب الـجَرَّاح ابن سينا، و الطّبيب الفذّ الرّازي ، و عبقريّ الفيزياء إبن الهيثم، و رائد علم الكيمياء جابر بن حيّان، و رائد علم الإجتماع إبن خلدون، و الفيلسوف إبن العربي، و الفارابي و الكَندي و إبن ماجة و إبن الطّفيل و أبو العلاء المعرّي، و كبيرهم و صاحب الفضل على التطوّر الفكري في أوروبا الحديثة، الفيلسوف و النّابغة "ابن رشد" الذي هضم ثم أعاد صياغة فلسفة جميع من سبقوه في مفهوم أتاح للغرب تلك الإنطلاقة الصّاروخيّة في جميع المجالات العلميّة (من يتساءل الآن عن مدى تأثير و فضل الفلسفة على العلوم الأخرى فأنصحه بمراجعة المقرّرات الثانويّة: لا يمكن لأيّ علمٍ أيّاً كان من الإنطلاق دون طرح أسئلة مُسْبَقَةٌ، و هي فلسفيّة في الصّميم).

والمأساة الحقيقية أنّ كلّ رجال الدّين من إغريق وفرنسيين و إسبانيين و عرب وغيرهم وضعوا نُصب أعينهم صخرةً ضخمة تُمثّل في أذهانهم الدّين الحق الذي لا يتغير ولا يتطور. وفات عليهم أن يروا ما بداخل الصخرة. ويُحكى أنّ طفلاً مر على نحّات كان يتأمل صخرةً من الجرانيت، وقال الطفل للنحات: "ما الذي تبحث عنه ؟ فقال له النحات: أصبر بضعة أيام وسوف تعرف. وبعد مرور عدة أيام رجع الطفل للصخرة ورأى مكانها تمثالاً لحصان. وأُعجب الطفل بالحصان وظل يتأمله لفترةٍ ثم قال للنحات: إنه حقاً حصانٌ جميل، ولكن كيف عرفت أنه كان داخل الصخرة

لا نحتاج أن نقول أنّ عاصفة محاكم التفتيش والتّزمّت الدّيني التي اجتاحت أوربا في القرون الوسطى قد ماتت وانقشع غمامها ولم يعد الدّين في أوربا فرضاً على الناس ولم يعد رجال الدّين فؤوساً مسلطةً على رقاب الناس. الأوربيون الآن اقتنعوا أنّ الدّين مسألةٌ شخصية بين الإنسان وربه ولا دخل للدولة فيها ولا لرجال الدّين في الدولة. وفي المستقبل الذي قد يكون بعيداً ستنقشع غَمامةُ التعصب الدّيني عن الإسلام والمسلمين، ويكتشف المسلمون عقولهم ويبدأون عملية التّفكير في الدّين ونقد ما لم يكن مسموحاً لهم بنقده. وبذا يتخلّصون من العقلية التي سمحت ل"الطّلبان" بإرجاع أفغانستان أربعة عشر قرناً للوراء، و أنجبت لنا منظمة "القاعدة" التي جعلت حياة المسلمين في أمريكا وأوروبا كحياة المجرمين الذين لا يتجرّأون على دخول أيٍ من مطارات العالم خوف المذلة التي يتعرضون لها.

نعم إنّ العالم العربي يمر في مرحلة عصيبة، ولكن من المسئول عن هذه المحنة التي يمر بها العرب والمسلمون عامة ً؟ لا شكّ أنها من صنع العرب والمسلمين أنفسهم ورغبتهم العارمة بالرجوع بأنفسهم إلى عصر الإسلام الذهبي قبل أربعة عشر قرناً من الزّمان. وقاد هذا الهَوَسُ بالماضي الجماعات السّلفية إلى تنفيذ فاجعة 11 سبتمر عام 2001 التي جعلت الإسلام مرادفاً للإرهاب والمسلم مرادفاً للإرهابي، وقسّموا العالم إلى معسكرين متناحرين في رأيهم: "إما فسطاط الإيمان أو فسطاط الكفر... وإما نحن وإما هم ولا يمكن التعايش بينهما!!" على غِرَارِ بعض المتشددين الغرببّين الذين قالوا: "الغربُ غربٌ والشرقُ شرقٌ ولا يلتقيان". وهذه النزعة الإنتحارية هي ضدّ الإنسانية والحضارة العالميّة، ناهيك عن تناقضها تماماً مع روح الأديان وجوهرها.

فالتيار الإسلامي قد تصاعد بقوّة في أواخر سبعينات القرن الماضي و مع تدفق "البترودولار"، حتى بات رقما هامًّا في المعادلة السّياسية و الإجتماعيّة المعاصرة. ويُعَبّر هذا التّيار عن نفسه من خلال الدّعوة إلى تطبيق الشّريعة الإسلامية في شتى مناحي الحياة وعودة الإسلام إلى قلب الصراع السّياسي و الإجتماعي. ولماّ كان الخطاب الإسلامي مبنيا أساسا على الدّين، كان من الطبيعي أن يجد القُبول من قِبَلِ قطاعٍ واسعٍ من البشر الذين يمثل الدّين بالنسبة إليهم موضوع اعتزازهم وحماسهم، فالمجتمع العربي كان وما يزال مجتمع عاطفيا متديّنا يستطيع أصغرُ رَجُلِ دينٍ أن يُجَيِّشَ مشاعره ويحشد الناس تحت لوائه.

ولفهم طبيعة الخطاب الإسلامي المعاصر لا بدّ أولا من التّأكيد على حقيقة هامّة، وهي أنّ التّيار الإسلامي هو جزء من ظاهرة التديّن السياسي التي شهدها العالم أواخر السّبعينيات والتي تمثلت في صعود الحركات الأصولية المسيحية واليهودية والهندوسية.
ورغم تباين هذه الأصوليات فكريا وعقائديا إلاّ أنها في النّهاية تشترك في عدّة مظاهر، منها الإستعلاء على الآخر ،والرفض الكامل والحاسم لكل ما يتعارض مع رؤيتها ورفض التّعايش معها، واعتماد القوالب الجامدة والأحكام المقرّرة سَلَفًا مكان الصيرورة الفكرية

samedi 5 janvier 2008

محاكم التفتيش "1



إذا كانت الإيديولوجيا كما عرَّفها "كارل ماركس" مجموعةَ أوهامٍ تُعـتِّم "العقل" وتُـحجّبه عن إدراك الواقع والحقيقة، فإن العقل يتحوّل مع الإيديولوجيا إلى مفهوم مسبّق، يجب تحديده وتأطيره وِفقاً لـما تَرتئي الإيديولوجيا وتُريد، إذ يتحوّل العقل وِفقاً لذلك إلى مجرد أداة تستجيب دائماً لرغبات الإيديولوجيا الفائزة التي لا تفتر ولا تني عن الوُلوج في الصّراع مع الخـصم، ويتوجب على العقل عند ذلك أن يخوض معها الصراع لتحقيق النّصر والظّـفر.

لكن ما السبيل إلى اكتشاف هذا "العقل" والتمثّل به كي نحقّق ما نطمح إليه ؟ هنا تتكاثر الأجوبة بحكم تكاثر الإيديولوجيات، فالإيديولوجيا التّقدمية العلمية ترى أن النموذج "العلماني" وحده يؤدّي إلى تكوين عقل علمي بنّاء، كما يعبّـر حامد خليل في كتابه "أزمة العقل العربي". وإذا توقّفنا لحظة للتساؤل عن ما خلفه النّموذج العلماني في الأقطـار الـمحافظة على صعيد العقل، هنا تجيب الإيديولوجيا، في لغة فيها الجزم مع الحسم:"إنّ العقل العلماني ليس قادراً على التّغيير بحكم بُـنيته الداخلية، وإنما بسبب الحصار المضروب عليه من قبل القوى الظّلاميّة والرّجعية التي ألّبت الجماهير عليه" وبذلك يصبح العقل العلماني منفرداً ووحيداً مع نفسه، إذ تآلب الجميع ضدّه وتخلّـت الجماهير التي يتكلم باسمها عنه.

هنا تثور الإيديولوجيا العلمانية مرّة أخرى لتؤكد أن العقل المُتحرّر يمثّل المَخرج الوحيد للأزمة التي يعيشها العقل العربي، وكلّ
خطأ أو انحراف ليس ناتجاً حتماً عن تركيبته وبنيته، إذ هو مبرأ عن الأخطاء، وإنما يمكن إعادته إلى عوامل خارجية وقوى التّـحكم الظّلاميّـة التي تتربص بهذا العقل، و مدى هيمنة الإيديولوجيا الـمُحافظة على العقل وتلبُّسها، به بدلاً من أن يكون العقل حاكماً ل"الإيديولوجيا" وموجهاً لها.

لقد اكتشف المسلمون "العقل" متأخّرين، لكنهم برغم ذلك، لم يُفَـوِّتـوا عليهم فرصة توظيفه في التّجاذب الإيديولوجي. لقد تحوّل "العقل" في الإيديولوجيا الإسلامية المعاصرة إلى رِهان، إن كسبناه حقّقنا النّهضة، و إنّ خسرناه كان علينا مواجهة مصيرنا المعتّم الذي ينتظرنا وفقاً لذلك. وطبيعيٌ بعد ذلك أن ترفض هذه الإيديولوجيا الـمُحافِظة أيّـة قراءة أخرى للعقل لا تنسجم مع رؤيتها ولا تتطابق مع مُسلّماتها و ثوابتها، وهذا ما لمسناه مع موجة النّقد الشّديد الذي وجهته هذه الإيديولوجيا لأيّ قراءة جديدة خلاّقة للعقل و نتائجه و تراكُماته.

إنّ الإيديولوجيا الإسلامية قد راهنت على العقل باعتباره محرّك التّغيير وأداته، فهي تُعيد ما أصاب الأمة من تشرذم، وتشتّت، وضياع للهويّـة، وافتقاد الدّور الرّيادي على الصّعيد العالمي إلى الإبتعاد عـن الإسلام النّقي "المعقول" و التّهافت وراء إيديولوجيّات مُنحلّة، مُستوردة مصبَّرةٍ عقيمة. ونحن بدورنا نتساءل: أكلُّ هذا على "الإبتعاد عن الإسلام" أن يتحمله وأن يحمل مسؤوليته ؟ وهكذا يغيب أي سياق سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي لتفسير الأزمات المعقدة والمتشابكة.

وما دامت الأزمة قد اختصرت إلى هذه الرؤية فحلولها تختصر أيضاً، وبالطريقة نفسها، بالاعتماد على الرُّجوع "الميتافيزيقي" إلـى الأصل و إعادة تشكيل "العقل المسلم" حسب تعبيرها، وإعادة التّشكيل هذه تقتضي منّا تنقية هذا العقل من كل الرواسب والشوائب التي عَـلِـقت به، ثم نعيد تقويضه وِفق ما تريد الإيديولوجيا الإسلامية الـمُحافظة، وعليه، فالعقل هنا يجب أن يكون متوافقاً مع المنهج الإسلامي، فبُعده عنه سبب كل هذا التّخلف والتّردي والتّراجع.

ولا تكتفي هذه الإيديولوجيا بذلك، بل تحاول أن ترسم أُسُساً وتصوراً وملامحاً للعقل الفردي و الـجماعي، وذلك بعد عملية إعادة التّشكيل المطلوبة، عليه "أن يميز بين الحلال و الحرام، وأن يحول من حياة التّرف والدّعة و الغفلة إلى حياة الـجَلْدِ و الـمُجاهدة، وعليه أن يكتسب خاصية الولاء و البراء، وأن يكون دقيقاً في تعامله". وهكذا تُسقط هذه الإيديولوجيا صفاتها الخُـلُقية على العقل المطلوب دون مراعاة لهذا الإنتقال من الواقع إلى العقل إلى المنهج، مما يعكس غياباً للوعي، واختلاطاً في الرؤية والنظر معاً، إذ كيف ننتقل من المستوى الاجتماعي والتجريبي إلى المستوى المعرفي، من دون أن ندرك أن القفز ليس بهذه السّهولة بل إنه غير ممكن عملياً قبل عملية إعادة تقعيد نظري للمعطيات المعرفية الموجودة، ثم العمل على ربطها مع الواقع القائم، غير أن الإيديولوجيا الإسلامية الـمُحافظة تبدو قادرة على تجاوز كلّ ذلك برغم ادعائها أنها تتبنى المنهج "المعقول"، فما وجدناه لدى هذه من حيث الرّهان على الـمستقبل كعصا سحرية قادرة على إخراجنا مما نحن فيه، ونقلنا إلى ما نريد أن نكون عليه دون مراعاة الـظّروف التّاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعيشها ويتشكّل وِفقها، ووفق تأثيراتـها، يُؤكّد هذه النّظرة.

إنّ العقل وفق ما تطلبه الإيديولوجيا الإسلامية الـمُحافظة مشروطٌ بشروطها، ومتحققٌ فقط بأصولها، عليه ألّا يخرج عما تحدده وتُـؤطره، ومطلوبٌ منه أن يتقيّد ليس بفضائها العام فحسب، بل بتفاصيلها أيضاً، وإذا كانت الإيديولوجيا الإسلامية بكلّ تلويناتها قد راهنت على "الرّجعيّة" بوصفها مفتاح النّهوض، فإن رهانها هذا لم يكن على العقل بإطلاق بقدر ما كان على العقل المؤطَّر بالإيديولوجيا، وبالتالي، فخطاب الإيديولوجيا الإسلامية للنهضة من خلال "الإسلام هو الحل" هو خطابٌ مُراوغ، لأنه لا يبتغي تحقيق النّهضة بقدر ما يشترط تحقّقها بتحقيق ما يبتغيه منها، لذلك نستطيع القول إن الخطاب الإيديولوجي الإسلامي هو خطاب مضادٌّ للحقيقة، لأنه لا يروم المعرفة بقدر ما يبتغي السياسة، والسياسة هنا ليست بما هي علمٌ له أصوله وقواعده، وإنما بما هي كسبٌ للأنصار والجماهير، وتبخيسٌ للخصم والآخر، وهذا بدوره يؤكّد لنا أنّ العقل المسلم هو عقلٌ مُصَادَرٌ، ومشروط، ومحكوم بمسبّقات منهجيّة محدّدة سلفاً، لذلك حَقَّ أن نقول "لقد تحول مفهوم العقل حسب حاجات الصّراع الإيديولوجي، فأصبح شعاراً بقصد الإنتماء إلى معسكر ضد آخر، ونزعِ شرعية الكلام عن الخصم".

و على الرّغم من أنّ الحديث على العقل الـمُجرَّد، و يترنّمون به، ويتوسّلون إليه، إلاّ أنهم إذ يتحدثون عن العقل الـمُؤَدْلَـج، و يطالبوا الجميع بالتّطابق والتّماهي معه، فالصّراع على العقل لدى المسلمين كان بمثابة وجهٍ جديد من المعارك الكثيرة التي خاضوها حول التّراث والتّنوير والهوية، فكل مفهوم كان بمثابة ذخيرة إيديولوجية لـجَبْهِ الآخر ولجمه، والنتيجة كانت خسارة المسلمين لجميع معاركهم الفكريّة و الحضاريّة، لأنهم في الأصل لم يخوضوها من أجله، وإنما من أجل قداسة الإيديولوجيا المنزّهة المقدّسة، بذلك تكون "لعنة" النهضة التي رافقت المسلمين خلال تاريخهم المتطاول، ولم تحلّ عليهم، بعيدةً أن تتحقق لديهم دون أن يتمّ أفول شمس الإيديولوجيا المحافظة، وبزوغ نور العقل.

ولعل ﻫﺫا الشّعور بالذنب و الـمسؤوليّة الناتج عن الرّغبة اللاّشعورية في الـمَلامة و العقاب، هو المحرك الأساسي لثقافة التّكفير المتسمرّة في جنون النّقاء والصّفاء التي تُـجفّف العقل المسلم الأخلاقي وتُـجمّد حساسيته وتحرره من واجب احترام الحياة البشرية. وهو ما نعيشه ﻫﺫه السنوات العُجاف، عندما زعم نفر من الناس لم يخترهم أحد أنهم أصبحوا أولى الأمر "يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر" و نصبوا أنفسهم سُلطةً عُليا لا تتورّع عن التّدخل في رغبات النّاس ومُيولهم. وفي محاولةٍ لتطبيق نظامهم الأخلاقي الصّارم، روّجوا الفتاوى الهاﺫية لمصادرة عقول النّاس و أجسادهم. ولأنهم مركز الكون، وآراؤهم حقائق مطلقة لا غبار عليها، أنكروا حقّ الآخر في الاختلاف، لأن مجرّد تواجد الآخر المُختَلِف هو تكذيب لادعائهم الشُّمولي. وهو ما جعلهم يعاملون الآخر لا كمُغاير نتحاور معه بالحُسنى، بل كعدو لا تنفع معه إلاّ التصفية المعنويّة و حتى الجسدية.

يقول عبد السّلام ياسين، مُرشد جماعة "العدل و الإحسان" المغربية في كتابه "حوار الماضي و المستقبل":
"عقولٌ ما سمعت سمعاً كاملا مُتكاملاً في الدُنيا، وهي في الآخرة في مُقام الحسرة و النّدامة تقول ما يُخبرنا به الله تعالى مَلِكُ الدّنيا و الآخرة {و قالوا لو كُنّا نسمع أو نعقل ما كُنّا في أصحاب السّعير. فاعترفوا بذنبهم. فسُحقاً لأصحاب السّعير}. ما أعظمَه ذنباً ذنبُ العقلِ الذُّبابةِ يأكل من رِزق الله، و يكفر نعم الله و يكفر بالله!." (ص 140) "فَلِزَعْزَعَةِ الإقتناعات التي درّبوا عليها عَقْلَ الـمُغَرَّبِين منا، و لتنحية الغُثائية الـمَرضية الموروثة، ليس من مستمسك إلاّ تجديد الإيمان بالله و باليوم الآخر. فالخوف من الموت و الحرص على حياةٍ أيٍّ حياة هو رأسُ الداء. و إرادةُ النّجاة عند الله رأس الدّواء."
(ص 141).هللّـلوا يرحمُكم الله..

إنّ هذه القوانين التفتيشية (محاكم التفتيش)، حتى في أفئدة الناّس، التي تُزاحم المأساة فيها الملهاة، ليست شيئا قليل الأهمية. فهي تعكس بنية معرفية و نفسية تتميز بها الحركات الشّمولية المعادية للثقافة والحياة. و يُستحسن أن يقف عندها العقل مطوّلا، لأنها تنطوي بالقوة انطواء البذرة على النّبتة، على نمط تسيير المجتمع التُّوتاليتاري المنشود الذي تطمح إلى تأسيسه الحركات الإسلامية المهووسة بآليات التحريم و التجريم والتكفير. لذلك نرى البعض، في عصر تُعبئ فيه الأمم جهودها في معركة الإنتاج الحضاري، مازال يتجادل في الصُّحف و عبر الفضائيات حول البديهيّات.

إنّ إثارة مثل هذه المسائل الشَّكلية واختراع مثل هذه القضايا المصطنعة التي تشغل الناس عن الرّهانات المصيرية يشوّه الإسلام حتى عند معتنقيه، خاصة عندما يختزله البعض في لائحة غبية من الأوامر و النواهي شبه العسكرية.




jeudi 1 novembre 2007

تحررالإنسان من قيود الأديان









مقدّمة




إذا كنتُ سَجينَ عقيدةٍ مُطْـلَـقَـةٍ دهريّـة، و منهجيّةٍ شُمولـيّـةٍ مُحْتَكِرة، تقول لي: إنّما هي الدّار الآخرة و سباق الأسلاف، و ماضي رصيدك الإيماني و ماضي الأسلاف، و حاضر جهادك وجهود الأسلاف، و مستقبل استعبادك في الأرض و قيود الأسلاف، فلا عليّ أنْ أُعرض عمّا سِوايَ و أقوالَ الأسلاف. حاضرُ دُنْـيـَايَ و سعادتي، تطـلُّـعـاتي و أحلامـي، انتصاري لعقلي وحقيقتي على النّاس، وعلى ثوابت النّاس....
لكن إنْ تحرّر عقلي من رِبقة التّقليد الغالب، و تاقت نفسي إلى معرفة الحقيقة و سماع خطاب العقل و إصرار تساؤلاته، فإنّ حديثي المُنقِّب عن تاريخ الأقوام و ضياع الأسلاف، و خِطـابِـيَ الكاشف عن حاضر النّاس و النّاس من حولي، و نظرتي المُستشرِفـة لمستقبل الإنسانيّة، تُسْقَلُ بمطارق العلم وتُستنار بسراج العقل، و يُستدلُّ على الطّريق إلى الحرّية و السّعادة، بحقيقة واحدة: أنّ الحقيقة غيرُ مُطْـلَـقَـةٍ أو ثابـتـة، و البحث عنها هو الحقيقة ذاتُـهـا.

في هذه الدِّراسـة نَعرضُ من تاريخ الأديان مُقـارنـةً، نشأتها و أساطيرها، منطِقُها و أوهامُها، أدلجتَها و تطلُّعَاتها. نتحدّث عن الإديولوجيّة و المبادئ، و عن المصطلحات و الكلمات و المفاهيم و الدَّلالات. أسئلةٌ جِدريّةٌ عن القصد و الهدف هي من محاور هذه الدّراسة، للنّظر في المباني الفكريّـة و التّاريخيّـة للحركة الدّينيّة، و خاصّـة منها الإسلاميّة.

فقضيّـة هذه الدّراسة تتلخّص في كلمتـيـن: ليس هناك سبيل إلى بعث تُراثنا و تجديده إلاّ بإعادة دراسته على ضوء العلم و العقل و المعرفة الإنسانيّة الـمُتراكِمة، لنُغربله و نَفْصِلَ هشيمه عن بذوره. و البحث المُقارَن، مثل علم اللّغة الـمُقارن و الأساطير الـمُقارَنة و الفلسفة الـمُقارَنة و الأديان الـمُقارَنة و القانون الـمُقارَن، هو أحد الأدوات الهامّة التي نُغربل بهـا تُراثنا و نعرف بها وجائشه مع ما جاوره و ما سلفه و ما خلفه. و أوّل الأولويّات فـي كلّ دراسة هو البحث عن الجدور المُشتركة و عناصر التّأثّر و التّأثـير. و ليس هناك ما يدعو إلى الإنزعــاج من البحث عن الـمُؤثّرات الإديولوجية و الأدبيّـة و الفكـريّة في ثقافات الأُمم و مُعتقداتـهم مهـما عَظُمَ شأنُـهم، لأنّ "الـتّـأثّر" شئ، و "الـسّرقـة" شئ آخـر.

أمـاّ بعد الحديث عمّـا يـخترق العقول و يُدجّـنُها و يُقوّضها و يَردمُ فِطرة الشّك و التّسائُل في أُسِّ مبانيها، فهلِ اختراق حُجُب



"الـمحظورات" (الطابوهات) لتجليّة الـحِجاب عـنها و الـتّطلُّع إلى عورتها و عرض حالها و الإستماع إلى أصواتها و إقصاء الأوليّاء من أهلها، أمرٌ مُباحٌ صـراح ؟
أم هي جُـثمـانٌ مُقدّسٌ شـأنُـه أن تُشاد له الأضرحة الـمرمـريّة مُوقَّراً مَـهيبا ؟
أم هي جُثّـةٌ مُحرجةٌ مُنحلّةٌ مُتبرِّجة يليق بـها أن تُـدسَّ في التّراب، فضيحـة يُـعَـفُّ عن إفـصاح سوءاتـهـا ؟
هل من شرط الحديث عن التـُّراث و المقدّسات أن يكون هَـمْساً رقيقاً بين أحبابٍ في وداعة الحُملان ؟ و هل يقدَح الأسلوبُ الفـاضح، و الكلمة الخشنة، في جِدِّية الحديث ؟ أم هل يَـصِحُّ مُروءةً و وفاءً و أمانةً أن نُسدِل أستار التّغاضي و تبادل المجاملات على ماضينا و حاضرنا حتّى لا نُحرِج قوما أو نَجرَح شعورا ؟...
...

إذاً فلا وضوح، إذاً فلا مستقبل إلاّ دَورَانَـنا حول رَحَى المُكَرِّر المخبول.

إنّ الخروج من سراديب التّعتيم الدُّوغْماتي، ومن شعودة السُّدنة الكَهَنُوتيـة المُتَسَلِّطة باسم "الـثّوابـث"، و من جُحُور التّعاطف و التآلُف و التّماهي في الظّلام بين المُعَتِّمين و المشعوذين، يقتضي منّا الوضوح و التّوضيح.

خلّونا من الهالة المُسطَـنَعة حول التُّراث و ثوابته، رُمُوزِه و مُقدّساته، أَوهامِه وخُرافاته، ذلك الصَّريحُ المليح في عين عُشّاقه، المرغوب الـمطلوب عند سُدنة القائمين عليه و المُنتفعين منه، و تعالوا نطرح في صفحات هذا الكتاب أسئلةً تهدف إلى الصِّدق و ترمي إلى الحقيقة، ونتأمّلْ و نحتكم إلى العقل المجرّد. تعالوا ننظُر في حقيقة أنفسنا و عقولنا و لا نستهين بمزاياها و لا نُغْمِطُها حقّها في بلوغ السُّمو.

أيُّ شئ يختفي في عُمْق مَتَارِسِ الأرصدة التّاريخية الدّينية ؟
أيُّ ماضٍ زُيِّفَ، أيُّ حاضر كُـيِّف ؟
أيُّ مُستقبلٍ يقترحه على الإنسانيّة منْ لا يُحِبُّون الكشف عن ماهيّة عقيدتهـم و فِكرِهِـمْ ؟

إنّه من حقّنا أنْ نقول كلمتنا و من حقّ الغير أنْ يقول كلمته فيـما نقول. و من قبلنا كم أُوذي كُتَّـاب و مُفكّرون و علمـاء فيـما كتبـوا و فكّـروا و عَلِـمُوا...اسْـتَـلْـهَمُوا و أَلْـهَـمُوا. فلتَكُـن محكمتُـنا هـي السّاحة الكُبرى، ساحة الـجماهير الكبرى التي لا تُدين النّاس و لاتأخدهم بالشُّبُهات، و لتكـن لنا أُسوةٌ في أساتذتنا الكبار الذين أوذوا في سبيل حرّية الكلمة و من أجل الإصلاح، حين أرادوا تجديد تراث الآباء بإعادة فتح باب الإجتهاد و النّقد، على ضوء المنهج العقلـي و العلـمي.

اقرأ لترى من أيّ مُستنقعٍ إيديولوجي، و وصمة عارٍ على الجبين، و تشردمٍ في المبادئ، ، و انتكاسٍ في الفِطرة، و جهلٍ فارع، و انـحطاط خُلقي، و سفاهةٍ في الحياة، و نكارة في الدّنيا و حقارة يجب أن نستيقظ و نتطهّر و نترفّع و نتعزّز لكي نسمو إلى مستوى الإنسانية.

هذا إذاً هو بيت القصيد.....

لو أنّنا نسينا كلّ ما قيل من كلامٍ مُحْنِقٍ في هذا الموضوع، يبقى أمامنا شئ جديرٌ أنْ يُنظـر فيه: و هو أنَّ المنهج الذي التزمته في هذه الدّراسة عن مُغـامرة الأديان و الغيبيّات بصفة عامّة، و عن "تَـفْـرِيعَـةِ" الإسلام بصفة خاصّة، و هو من أولويّات البحث الـمُقارَن، هو في ذاته مصدرُ إزعاجٍ للمحافظين من العلماء و المشايخ و المُتـديّـنـين، لأنّ معناه هو فتح باب الإجتهاد من جديد في دراسة تُراثنا، و هو ما لا يُطيقه الـمُحافظون، لأنّه جَديرٌ بأن يُزعزع كثيراً من ثوابتنا و مُعتقداتنا الخاطئة عن الـموروث. و هُمْ يَنسَون أنّ الإزدهار الأكبر في الفكر العربـي إنّـما اقترن بفتح باب الإجتهاد و النّقد على مِصراعيه أيّام مجد العرب في الدّولة العربيّة الكبرى خلال القرون الأربعة الأولى، وأنّ انتكاسة العرب بعد الدّولة العبّاسية الثّانية لم تَقترن بتفكّكهم السّياسي فحسب، بل اقترنت بإغلاق باب الإجتهاد و التّعبـيـر مند آل السُّلطان إلى المماليك و الأتراك. فالضّعيف، في ميكانيكيّة الدّفاع عن النّفس، وحده هو الذي يخشى الفكر الحرّ و البحت الحرّ، و يرتعد أمام العلم و العقل و التّجدّد بثوابت الخلق و بالرُّئيا الرّحبة الآفاق، الـمُريحة الـمُنغمسة الكسول. و الضّعيف وحده، في جزعـه على ذاته، هو الذي يخشـى مُحاسبة النّفس و مُسائـلة النّفس، و مُواجة العقل و نقد العقل. و يُـؤْثِـرُ أن يعيش في عالمٍ من أوهـام الـكمال و أماني الإحســان في جنّـة الـمجانيـن.

لن أصطَنِع الأُسلوب الآكاديمي المُحايد "العلمي" المُريح، الـمُـنْـغَـمِس في أحضان العافيّة "الموضوعيّة"، اللّهم إنْ كان سَرْداً تاريخيّا للأحداث و التّواريخ، أو اقتباسا منقولاً و "بدُون تعليق"؛ بل اعتمدت أسلـوباً سَلِساً يرتكز على الشّفـافيّـة، و لـهجةً نقديّـة و ربّما مثيرةً، مع بعض الفُكاهـة من حينٍ لآخر، حيث تُزاحم المأساة فيها الملهاة.

أخـيرا و ليس آخـراً حديـث السّياسـة و موقفـي مـنـها، و هو ما عجزت و عجز النّـاس عن فهمه، لأنّـي لا أكتب في السّياسة ولا سبيل لمعرفـة آرائي فيـها، إلاّ لمن أُوتيَ العلـم اللَّـد ُنِّـي و القُـدرة على التّفتيـش فـي أفئدة النّاس و ضمـائـرهـم. دعونا من الخطاب السّياسي الضّـيقِ الآفاق، القصير النّظر. دعونا منه لحظةً مرّةً، حتى نعلم ماهي الأرضيّـة التي نجلس عليها، و ما هي المباني الفكريّة العَقَديَّـة التي تُحرّك الجماهير، و ما هو السّياق التّاريخـي، و المُؤشّر التّربوي التّلقيني الذي يصوغ تصوّرات الجُموع و الأفراد. و لعّل مُساهمتنا في كشف القناع عن وجه الإديولوجية الـمُقَـنَّـنَـة الـمُشَرْعَـنَـة و عن بيداغوجيتها الـمُمِلَّة الـمُتحجِّـرة يُلقي الضّوء على مسارٍ تاريخيٍّ إديولوجيٍّ جغرافي نحن في سياق مُسائلته.

زيدٌ من النّاس لا يحبّ أن يسمع، فإنِ استمع فالكلمة العقلانيّة و المصطلحات العلميّة و المفاهيم الفلسفيّة في أُذنه أطيافٌ غريبة، وذِكرُ الحرّية في الحديث عن الرّأي و الرّأي الآخـر و النّقد المعرفـيّ مُروقٌ و زندقة.
أمـّا عمرو من النّاس فـالكلمة الـصَّراحة عنده فِسقٌ و تَطـاوُل، و فتنةٌ "لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّـةً".
بعد أن قرّر زيدٌ و عمرو أنّ أمر الدّنيـا و "الآخرة" محـسوم، شُؤونٌ "قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" ثُمّ "َحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً"، إثـارتُها بين يدي دراسةٍ عنوانـها "شـفاء الـصُّـدور من عـذاب الـقبـور".

لقد كان هذا الكتاب يهدف إلى الصّدق و يرمي إلى الحقيقة، ولربّـما جاز للبعض أن يرى في بعض الآراء و الأفـكار رأياً آخـر، غيـر أنّ الـمرجو أن يَـضَعَ في التّـقدير غايـتَنـا و أن يُـدخـل في الـحُكم قـصـدَنـا؛ فإن أصبنـا كبد الـحقيقة فـهـذا هدفُ البحث و غـايـتـه، و لئـن أخطأنـاهــا عفواً فـهذا أُسلوبُ العِلم و نَـهْـجُ التّنقيب، يـصـل إلـى الـصّـواب من خـلال الـمُحـاولـة، و يرقى إلى الـكـمـال من بَـعْـدِ و بُـعْـدِ الـتّجـربة.

دعونا نُلقي حَجَرًا في بركة الماء الرّاكدة، فيقيني أنّ دوائر المياه ستتّسع يوما بعد يوم.مع التّحية و التّقدير لكلّ من يتقبل الرّأي و الرّأي الآخر برحابة صدر
.

samedi 6 octobre 2007